سورة يونس - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)}.
التفسير:
السمع والبصر.. ومكانهما في الإنسان:
عرضت الآيات السابقة بعض مشاهد القيامة، ليرى الناس منها صورة مصغرة لما يقع فيها، من مساءلة، وحساب، وجزاء، وليكون لهم منها عبرة وعظة.
وهنا في هذه الآيات.. يعاد الناس إلى حيث هم في هذه الحياة الدنيا، وقد صحبتهم من مشاهد القيامة مشاعر، من شأنها أن تفتح عقولهم وقلوبهم لآيات اللّه التي تتلى عليهم، والتي تحدّثهم عن قدرة اللّه، وتكشف لهم آياته فيهم، وآثار أفضاله ونعمه عليهم.
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
هو عرض لبعض آيات اللّه، وما تحمل من دلائل قدرته، ورحمته.
فهذه أسئلة، كان ينبغى أن يوردها الإنسان على نفسه، وأن يتلقّى الجواب عليها من النظر في نفسه، وفيما يطوله إدراكه، من النظر في ملكوت السموات والأرض.
وإذ كان الناس في غفلة عن أن يقفوا هذه الوقفة مع أنفسهم، وأن يصلوا إلى الحقيقة بمجهودهم الشخصي.. فقد كان من رحمة اللّه بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون إليهم كلماته، ويحدّثونهم بما كان ينبغى أن يحدّثوا هم أنفسهم به.
{مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ}؟
{أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ}؟
{وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}؟
{وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؟
ما جواب هذه الأسئلة؟
جواب واحد، لا غير.. هو اللّه رب العالمين..!
وهنا أمور نحبّ أن نقف عندها:
فأولا: إسناد ملكية السمع والأبصار للّه.
لم أسندت إليه سبحانه وتعالى ملكية هاتين الحاستين وحدهما.. مع أنه- سبحانه- يملك كلّ شى ء؟ ولم كانت إضافتهما إلى اللّه بالملك، ولم تكن بالخلق، كما هو أظهر.. فقد يملك الشيء من لا يوجده ويخلقه؟
والجواب: أن السمع والبصر هما أظهر حاستين عاملتين في الإنسان، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بهما، فإذا فقدهما، كان كومة متحركة من لحم، لا تعقل ولا تعى شيئا! فعن طريق السمع والبصر، جاءت المعرفة إلى الإنسان، وتكونت مداركه، وأخيلته، وتصوراته.. وعن طريق السمع والبصر، تتحول هذه المعرفة إلى قوى دافعة، تحرّك الإنسان، وتوجهه إلى غاياته في الحياة.
وأما عن التعبير بملكية السمع والأبصار، لا بخلقهما، فلأن الملكية تطلق يد المالك في التصرف فيما ملك.. ولا ينفى هذا أن يكون المالك هو الخالق، فهو يخلق ويملك ما يخلق.. وقد يخلق ويهب ما يخلق، أو يملّك ما يخلق، فيكون للمالك وحده- حينئذ- التصرف فيما ملكه! فالتعبير بملكية السمع والأبصار، يعنى أن اللّه سبحانه وتعالى- وإن فضل بهما على الإنسان، فهما لم يخرجا عن سلطانه، وأنهما- وهما يعملان في الإنسان- يعملان بقدرة الخالق، وبتصريفه لهما.. وأنه- سبحانه- هو الذي يمدّهما بالقوى التي يعملان بها، ولو لا هذا لبطل عملهما.. فهو- سبحانه- الذي أعطى السمع والأبصار، ما لهما من قوى عاملة، وهو القادر على أن يأخذ هذه القوى، ويبطل عمل السمع والبصر، كما يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [46: الأنعام].
وثانيا: إفراد السّمع وجمع الأبصار.. ما دلالة هذا؟ وما السرّ الذي ينطوى عليه؟
والمتتبع لآيات اللّه، التي تتحدث عن السمع والبصر، يجد أن القرآن الكريم قد فرّق بين السمع والبصر، في الصورة التي عبّربها عن كل منهما.
فأما عن السّمع.. فقد التزم فيه القرآن الكريم الإفراد مطلقا، سواء اقترن به البصر أم لم يقترن.. وسواء أجاء منكّرا، أو معرفا بأل أو بالإضافة.
ولم يقع في القرآن مجىء السّمع جمعا في أي حال من أحواله.. ولم يرد في القرآن لفظ {الأسماع} أبدا.
يقول اللّه تعالى: {الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [101: الكهف].. ويقول سبحانه: {وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً} [26: الأحقاف] ويقول تعالى: {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [23: الجاثية] ويقول جلّ وعلا: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ} [26: الأحقاف] ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ} [46: الأنعام].
ويلاحظ في الآيات القرآنية التي ورد فيها {السمع} أنه يقترن دائما بالبصر، أو الأبصار، فإن لم يقترن بهما اقترن بحال من أحوال الإنسان التي يكون فيها في ذهول وغفلة وشرود.. كما في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ} [221- 223: الشعراء] وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [37: ق].. فالقلب هنا يقوم مقام البصر، في كشف معالم الطريق إلى الهدى والنور.. وقوله سبحانه: {الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [101: الكهف] فالعيون التي في غطاء عن ذكر اللّه، هى العيون التي لا تتصل معطياتها بعقل أو قلب، وهى الأبصار المعطلة التي لا تعمل! وأما عن البصر.. فقد عبّر عنه القرآن بصيغة الإفراد، وبصيغة الجمع.
وذلك في حال إفراد البصر بالذكر دون أن يقترن به السمع.
فقد جاء البصر مفردا مثل قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} [17: النجم] وقوله سبحانه: {وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [50: القمر] وقوله جلّ شأنه: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [4: الملك] وجاء البصر جمعا، غير مقترن بالسمع، كقوله تعالى: {وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} [10: الأحزاب] وقوله سبحانه: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [46: الحج].. وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [2: الحشر].
كذلك جاء البصر جمعا مقترنا بالسّمع، مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [23: الملك] وقوله جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [78: المؤمنون] وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ} [46: الأنعام].
وهكذا جاء وضع السمع في كلام اللّه، مخالفا بينه وبين البصر.. حيث يجىء السّمع مفردا دائما، ويجىء البصر مفردا وجمعا.. وأكثر ما يجىء البصر جمعا إذا اقترن بالسّمع- وقد جاء السّمع مفردا مقترنا بالبصر في قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [36: الإسراء] والسرّ في هذا- واللّه أعلم- هو أن بين السمع والبصر اختلافا من وجوه:
فأولا: السمع طريق إلى شيء واحد، هو الصوت.. والصوت، وإن اختلف قوة وضعفا، ورقّة وخشونة.. فهو- على أي حال- شيء واحد، في النوع، وإن اختلف في الدرجة.
أما البصر فهو طريق إلى هذا الكون كلّه، وما فيه من عوالم وأكوان، وما في كل عالم وكون، من ناطق وصامت، ومتحرك وثابت، وجامد وسائل.. إلى غير ذلك مما في العالم الأرضى من كائنات، وما في السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وكواكب... وكلها مختلفة متغايرة.
فالبصر، بالقياس إلى السّمع، هو أبصار.. يتعامل مع ما لا يحصى من الأشياء، حتى إنه في النظرة الواحدة يفتح عشرات القوى المبصرة، فتجىء إليه بأكثر من منظور! وثانيا: السمع، لا يستطيع أن يضبط أكثر من صوت واحد، في حال واحدة.. وإلا اختلطت عليه الأصوات، وذاب بعضها في بعض، وعسر على الإدراك، عزلها، وتمييزها.
والبصر.. ينقل كثيرا من المرئيات في حال واحدة، ويحتفظ لكل مرئى بصورته، دون أن تختلط بغيرها.. وينقلها إلى الإدراك منفصلة، كما ينقلها إليه متصلة.
فهو- من هذه الجهة- أكثر من حاسّة.. إنه أبصار، وليس بصرا واحدا.
وثالثا: السّمع مقيّد بوجود الصوت، الذي يتعامل معه.. فإذا لم يكن هناك صوت، تعطّل السّمع، وخيم عليه صمت رهيب!.
أما البصر، فهو عامل دائما، فحيثما فتح الإنسان بصره وجد ما ينقله إليه بصره من أشياء لا تكاد تحصى.. في أي مكان، وفى أي زمان.
فالبصر بالقياس إلى السمع هنا، هو أبصار كثيرة.. لا عدّ لها ولا حصر.
ورابعا: وأكثر من هذا كلّه- وهو في النظم القرآنى بالمحلّ الأول- هو أن البصر يستطيع أن يمسك بالأشياء، ويقف ما شاء له الوقوف إزاءها، ويعاود النظر إليها، مرة ومرة ومرات.. ويتفحصها من جميع وجوهها.
والسمع بمعزل عن هذا، إذ لا يستطيع أن يمسك بالصوت أكثر من اللمسة العابرة التي تمرّ به.. وفى هذا يقول اللّه: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [3- 4: الملك].
ومن هنا، كان البصر، أبصارا، في معاودته النظر إلى الأشياء، وفى تفحصها، والنظر إليها من جميع جهاتها، من قرب ومن بعد.
ومن هنا أيضا كان التفات القرآن الكريم إلى النظر، وتوجيهه إلى ملكوت السموات والأرض، وعقد صلة وثيقة بينه وبين القلب.
يقول تبارك وتعالى: {قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [101 يونس] ويقول سبحانه: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [99: الأنعام].. ويقول جل شأنه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [20: العنكبوت].. ويقول سبحانه: {فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [50: الروم].
وكما دعا القرآن إلى النظر في المحسوسات، وأخذ العبرة والعظة منها، دعا إلى النظر في المعنويات، وتدبّرها، ووصل العقل والقلب بها.
يقول سبحانه وتعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [75: المائدة] ويقول جلّ شأنه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [50: النساء] ويقول سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [48: الإسراء] ومن إعجاز القرآن في هذا أيضا، أنه تحدّث عن حاسّة السّمع باعتبارين:
باعتبار أنها جارحة من الجوارح، وجهاز من الأجهزة، وظيفتها نقل الصوت، شأنها في ذلك عند الإنسان شأنها عند الحيوان.. فهى {أذن} وهى بتعدد أصحابها {آذان}.
وهذا ما نراه في قوله تعالى، في تسفيه أحلام المشركين، وإنزالهم منازل الحيوان: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟} [195: الأعراف].. فهذه كلها جوارح حيوانية، ركّبت في كائنات حيوانية، لم ترتفع بعد إلى مستوى الإنسانية.. فالأذن عندهم أذن، وليست سمعا! أما إذا تحدث القرآن عن الآذان باعتبار أنها جهاز متصل بالقلب والإدراك.. فهى سمع وهى بتعدد أصحابها سمع أيضا.
أما البصر، فقد تحدّث القرآن عنه بالاعتبارين اللذين تحدث بهما عن السّمع.. فهو كعضو من أعضاء الجسم عين، وعيون.
وهو كجهاز متصل بالقلب، والعقل.. بصر وأبصار.
ثم تحدث القرآن عن البصر باعتبار ثالث، وهو أنه بصيرة.
أي ملكة تتخلّق من النظر المتأمّل، المتفحص.. فالبصيرة بنت البصر.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [2: الحشر] ويقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} [13: آل عمران] ولهذا اشتقّ القرآن من البصر: البصيرة.. والبصائر.. والتبصرة، فقال تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [14: القيامة] وقال سبحانه: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [104:
الأنعام].. ويقول جل شأنه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [7- 8 ق].
وبعد، فما أرانا بعد هذا الوقوف الطويل على ساحل هاتين الكلمتين.
{السمع والأبصار} ما نرانا إلّا قد حسونا حسوة من هذا المورد المتدفق العذب، تنقع الصدى، ولا تشفى العليل.. وذلك هو جهد من قصر باعه، فمن كان ذا باع فليرد، وليرتو، وليرو الظّماء! فهذا مورد لا يغيض!.
قوله تعالى: {فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ.. فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ.. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
الإشارة هنا: {فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ} إلى الناس جميعا، مؤمنهم، وكافرهم، ومشركهم.. تلفيهم إلى الإله الحق. الذي خلق فسوّى.. ثم نخلص الإشارة بعد هذا إلى الكافرين والمشركين الذين ضلّ سعيهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.. فتنخسهم نخسة موجعة بهذا الاستفهام الإنكارى:
فماذا بعد الانصراف عن الإيمان باللّه، والتعبد له- ماذا بعد هذا إلا ركوب الضلال، والضرب في المتاهات، والتعبّد لكل باطل وبهتان: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
.. أي فإلى أين تذهبون؟ وإلى أي مهلكة أنتم واردون أيها الضالون؟
قوله تعالى: {كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
حقت: أي وجبت، وقضت، ولزمت! فهؤلاء الذين فسقوا، وخرجوا عن طريق الحق، وكفروا باللّه، هم ممن حكم اللّه عليهم بألا يكونوا في المؤمنين.. وذلك دون أن يقسرهم اللّه على الكفر، أو يسلبهم إرادتهم، أو يعطل عمل عقولهم.
وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص، تحت عنوان مشيئة اللّه ومشيئة الإنسان.
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
الإفك: الافتراء، واختلاق الأباطيل.. وأنّى: بمعنى كيف.
وفى الآية محاجّة للمشركين، بعرض آلهتهم التي يعبدونها موضع الامتحان إزاء قدرة اللّه سبحانه وتعالى.
فاللّه سبحانه وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده.. فهو سبحانه خالق هذا الوجود، ومبدع هذه الأكوان.. وهو الذي أوجد الناس من عدم، وهو الذي يميتهم.. ثم هو الذي يبعثهم.
فهل في هؤلاء المعبودين من يفعل هذا، أو بعض هذا؟
لقد قالها النمرود لإبراهيم، وهو يحاجّه في ربّه، فألقمه إبراهيم حجرا.. فخرس إلى الأبد.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ} {قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ..قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ..قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [258: البقرة].
وفى الآية جاء النظم على غير ما جاء عليه في الآيات السابقة من سورة البقرة، حيث دعى المشركون هنا إلى أن يدعوا آلهتهم أولا، ليؤدّوا هذا الامتحان، وليأتوا بما عندهم.. فإذا ظهر عجزهم، لم يكن إلا التسليم بأن قوة غير قوتهم هى التي أوجدت هذا الخلق الذي يملأ الوجود حولهم، فإذا لم يعرفوا هذه القوة، ولم يدركوا نسبتها إلى من بيده تلك القدرة.. فليسمعوا الجواب، وليصححوا عليه أفكارهم الخاطئة، ونظراتهم الزائفة: {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}! ولكن الضالين ما زالوا على ضلالهم القديم، لم يغيرّ هذا الدرس من تفكيرهم شيئا. بل ما زالت أبصارهم متعلقة بآلهتهم، وما زالت عقولهم تنسج لهم الأباطيل والضلالات.. وهنا يسمعهم الوجود كله، إنكاره عليهم هذا الضلال، وتسفيهه هذا البهتان: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
أي كيف تطوع لكم أحلامكم افتراء هذه المفتريات، أمام هذه الحجة الدامغة، والبرهان المبين؟.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
؟.. فهذا امتحان آخر.. يدعى فيه المشركون إلى امتحان شركائهم به.
{هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؟
هذا امتحان أيسر وأهون من الامتحان السابق الذي كانت مادته النظر في بدء الخلق وإعادته.
أما هذا الامتحان فلا بعدو أن يسأل المشركون آلهتهم عن أمر ما، ثم يطلبون إليهم النظر فيه، وكشف وجه الحق لهم عنه: {هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؟
وهؤلاء الآلهة، صم بكم.. لا يسمعون، ولا يجيبون.. فلا هداية منهم إلى حق، ولا دعوة إلى غير حق! فإذا خرست هذه الآلهة عن أن تنطق.. فكيف يتخذها العاقلون الناطقون آلهة لهم يعبدونها من دون اللّه؟
وإذن فقد وجب على هؤلاء العاقلين الناطقين أن يطلبوا الهداية من رب الأرباب: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} وأن يتبعوا هديه، ويأخذوا بما جاءهم منه على يد رسله. {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}.
وأما وقد كشف الامتحان عن هذه الحقيقة، فإن الحكم الذي يوجبه العقل هنا، هو واضح لا يحتاج إلى ترداد نظر:
{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}؟
جواب واحد لا سبيل إلى غيره، إلا أن يركب المرء رأسه، ويمشى عليه، بدلا من رجليه.
وفى الناس كثيرون يمشون هذا المشي المقلوب، ويأخذون هذا الوضع المنكوس.
وليس يصرفهم عن هذا صيحات الإنكار التي تصيح بهم من كل ناظر إليهم:
{فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ هذا الحكم على أنفسكم، وتريدونها على هذا الوضع الذي أنتم فيه؟
وفى التعبير عن الاهتداء بلفظ {يهدّى} إشارة إلى أن هذا الذي يعبده المشركون من دون اللّه، لا يستطيع أن يهتدى من تلقاء نفسه إلى خير أو حق أبدا، فهو في حاجة إلى من يقوده ويهديه، وحتى مع هذا، هو بطيء الخطا، لا يستجيب استجابة كاملة لمن يهديه.. وهذا ما يدل عليه لفظ {يهدّى} الذي هو بمعنى يهتدى، ولكن فيه ثقل واضطراب! قوله تعالى: {وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا.. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} الظن هنا: ضدّ اليقين، وهو ما قام على أوهام باطلة، وتصورات مريضة، وذلك هو الذي يقوم عليه تفكير المشركين، وأصحاب الضلالات، والانحرافات لا تمسك عقولهم إلا بالأوهام، ولا تتعامل إلا بالظنون! فهذا البناء الشامخ الذي يقيمونه من أوهامهم وظنونهم، لآلهتهم، وما يعلّقون عليها من آمال، هى سراب خادع، وهى أضغاث أحلام، إذا جدّ الجد، ووقعت الواقعة، لم يجد أصحابها في أيديهم شيئا.. {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين، الذين غرسوا في مغارس الضلال، وأقاموا بنيانهم على شفا جرف هار.. فحبطت أعمالهم، وساء مصيرهم.


{وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الأحاديث السابقة كانت عرضا لبعض مظاهر قدرة اللّه.. وآثار رحمته، وذلك لتفتح العقول والقلوب إلى اللّه سبحانه وتعالى، وإلى الإيمان به، والانخلاع عن عبادة الأوثان والأشخاص، واتخاذهم آلهة من دون اللّه.. وإنه لكيلا يضلّ الناس الطريق إلى اللّه، بعث فيهم رسله، وأنزل معهم كتبه بالهدى والنور.
ومحمد صلى اللّه عليه وسلم هو الرحمة المهداة إلى عباد اللّه، والقرآن الكريم هو الينبوع الذي تفيض منه الرحمة، وتنبعث من آياته وكلماته الأضواء والأنوار.. ومع هذا، فقد وقف المشركون من هذا النبي الكريم، ومن الكتاب الذي أوحى إليه من ربه- وقفوا موقف العناد، والعداء له، والتكذيب به، والافتنان في سوق الضرّ والمساءة إليه.
وهذه الآية، تدفع عن القرآن الكريم، تلك الرّميات الطئشة، التي يرمى بها المشركون بين يديه، ويقولون عنه إنّه من مفتريات محمد ومن منقولاته عن الأحبار والكهّان، كما ذكر ذلك عنهم في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [103: النحل] وقوله سبحانه: {وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [5: الفرقان]- وفى قوله تعالى: {وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنكار واستبعاد أن يكون هذا القرآن من مفتريات مفتر، واختلاق مختلق.. إذ أن الافتراء والاختلاق هو تزييف للحقيقة، وتمويه للحق.
والشيء المفترى المختلق- أيّا كانت براعة المفترى، وذكاء المختلق- هو ضعيف هزيل، لا يثبت للنظر، ولا يصمد للزمن، بل سرعان ما يتعرّى ويفتضح.
وفى الإشارة إلى القرآن بقوله تعالى: {هذَا الْقُرْآنُ} تنويه به، وتمجيد له، وإلفات إلى علوّ منزلته، وتفرّده بهذه المنزلة التي لا يشاركه فيها مشارك.
وفى قوله سبحانه: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إشارة إلى استبعاد أن يكون هذا القرآن من صنعة إنسان، ومن وحي خاطره، وتلقّيات مدركاته أو أوهامه.. وأنه حتّى لو كان مفترّى- كما يتخرّص المبطلون- فإنه مع هذا- فوق مستوى البشر، وأنه ليس في مستطاع القوى البشرية كلها- متفرقة أو مجتمعة- أن تفترى مثله.. وأن من قدر أن يفترى مثله فلا بد أن يكون على صلة بقوة إلهية، تمدّه، وتعينه، على ما يفتريه، حتى يكون افتراؤه على هذا المستوي الذي يتخاضع بين يديه صدق الصادقين، وتصغر في حضرته حقائق المحقّين! فكيف وهو الحقّ من ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد؟
وقوله تعالى: {وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} هو معطوف على المصدر الواقع خبرا لكان فى- قوله تعالى: {وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كان هذا القرآن مفترى من دون اللّه ولكن تصديق الذي بين يديه.
والعطف بالحرف {لكن} يجعل حكم ما بعدها مغايرا ومضادّا لما قبلها.
والذي بين يدى القرآن الكريم، هى الكتب السّماوية التي تقدمته في الزمن، وهى التوراة والإنجيل.
وتصديق القرآن الكريم للكتب السماوية السابقة، هو أنه يشهد لها بأنها من عند اللّه، ويؤيد الحق الذي جاءت به، من الدعوة إلى اللّه، والإيمان به، وبما تدعو إليه من فضائل.. فهى جميعها من مصدر واحد.. قد جمع القرآن الكريم ما تفرّق منها.. كما يقول اللّه سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [48: المائدة] والكتاب الذي جاء القرآن الكريم مفصّلا له، هو الكتاب {الأمّ} في اللوح المحفوظ.. الذي صدرت عنه الكتب السّماوية جميعها، فهو من تفصيل هذا الكتاب، ومن محكمه.. كما يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [52: الأعراف] وكما يقول سبحانه: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [4: الزخرف] فالقرآن الكريم موصوف هنا بخمس صفات:- أنه غير مفترى.. ولو كان مفترى- كما يقولون- فإنه مع هذا، فوق مستوى البشر! وأنه مصدّق للكتب السابقة، وشاهد بصدقها.
وأنه من تفصيل الكتاب {الأمّ} ومن ينابيعه الوضيئة الصافية.
وأنه لا ريب فيه، فلا يجد الناظر فيه، والمعايش له، ما يربيه منه، أو يقع موقع الشك واللبس عنده.
وأنه- قبل هذا كله- تنزيل من ربّ العالمين.. وكفاه بهذا كمالا وعلوّا، وإحكاما.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
هو تحدّ للمعاندين، المكابرين من المشركين، الذين يقولون في القرآن الكريم: إنّه من مفتريات محمد.
صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقد تحدّاهم القرآن هنا أن يأتوا بسورة من واردات الافتراء التي جاء محمد بهذا القرآن منها.. فميدان الافتراء والاختلاق فسيح لا حدود له، ولا حجاز دونه.
فليجهدوا جهدهم، وليستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار ورهبان وكهّان، ومن سحرة وشعراء وخطباء، ومن إنس وجنّ.. ثم ليأتوا- بعد هذا- لا بمثل هذا القرآن كله، ولكن بمثل سورة منه.. ولينظروا في وجه هذا الذي جاءوا به، وليضعوه، في مواجهة آيات القرآن الكريم، ثم ليحكموا هم على ما جاءوا به، وهم أهل لهذه الحكومة، وصيارفة معادن الكلام.
فماذا يكون الذي يحكمون به؟ إنه لا شك إدانة لهذا المولود اللقيط الذي جاءوا به، واتّهام له أنه جاء من غير رشدة.. وأنه لن يجرؤ أحد منهم أن ينسبه إليه أو يحمله بين يديه، لو صدق نفسه، واحترم عقله، واحتفظ بماء الحياء في وجهه! قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}.
تفضح هذه الآية الكريمة طيش هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من حماقة وجهل.. ذلك أنّهم على غير ما عليه العقلاء، من تثبتهم في الأمور، وتعقلهم لها، وتفرسهم في وجوهها قبل أن يحكموا عليها، وقبل أن يأخذوا بها أو يدعوها.
فهؤلاء المشركون، قد استقبلوا القرآن الكريم بالبهت والتكذيب، قبل أن يروه رؤية كاشفة، وقبل أن يستمعوا إليه استماعا واعيا.. {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}.
وهذا ضلال مبين، وخسران عظيم، واعتداء على حق العقل في النظر والتثبت، قبل الرأى والحكم.
وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم بالقرآن، والإحاطة بهذا العلم الذي ضمّ عليه، بل هو العلم مطلقا، بأى شىء، ولأى شىء.
وفى هذا مبالغة في تسفيه القوم، واستسخاف عقولهم.. حيث تغلب عليهم أهواؤهم ونزعاتهم، فلا يلقون الأمور بعقولهم، ولا يزنونها بأحلامهم، وإنما يلقونها بأهوائهم المسلطة عليهم، ويزنونها بما يقع لأيديهم منها، من نفع ذاتى عاجل.. فإذا لم يستقم الأمر على ميزانهم هذا، تنكروا له، وأنكروه، من قبل أن يعلموا ما هو؟ وما الصفة التي يقوم عليها؟
وفى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} إشارة خاصة إلى القرآن الكريم، وأنه ليس من عوارض الأمور، التي يفرغ المرء من حسابه معها في نظرة عابرة، أو لمسة طائرة.. وإنما هو آيات اللّه، قد أودعت في حروفه وكلماته وآياته، أسرار هذا الوجود، ونظام هذا العالم، وملاك أمر هذا المجتمع الإنسانى، ومناهج سعيه المستقيمة.
وإذا كان هذا هو شأن القرآن الكريم، فإنه- لكى يتعرف الإنسان عليه، ويقع على بعض ما فيه من أسرار- يجب أن يقف المرء طويلا معه، وأن يعطيه ملكاته كلها، وبهذا يعرف ما هو هذا القرآن الذي يسمعه، ويدرك طعم هذا الثمر الذي يتدلّى عليه من أغصانه وأشجاره.
أما النظرة الحمقاء الشاردة العجول، أو النظرة الجامدة الباردة العمياء.
فلن تنال شيئا، ولن تبلغ غاية، تحصّل بها شيئا من هذا الخير الكثير.
وهذا هو السر أو بعض البسر- في {لمّا} التي تفيد امتداد الزمن وتراخيه حتى يقع الحديث الذي يجىء من الفعل الوارد عليه هذه الأداة {لمّا} التي تفيد التراخي والامتداد في الزمن المستقبل.
والصورة هنا هكذا:
إن هؤلاء المشركين من شأنهم أن يواجهوا الأمور بعواطفهم ونوازع أهوائهم، فيدفعوا كل أمر لا يلتقى مع أهوائهم، ولا يستجيب لمنازعهم.
هكذا شأنهم مع صغير الأمور وكبيرها، ومع قريبها وبعيدها.. فإذا جاءهم أمر تلقّوه سلفا بما تموج به صدورهم من نزعات وأهواء، فإذا جاء الأمر على وفق أهوائهم، وجرى على طريق نزعاتهم، قبلوه، واطمأنوا إليه، وإلا أنكروه، وتنكروا له! وهم مع القرآن، بادءوه بالإعراض والتكذيب قبل أن ينظروا فيه.. ومن نظر منهم إليه، نظر نظرا منحرفا، باردا.. فكذبوا بالبدهيات، كما كذبوا بما يحتاج إلى بحث ونظر، وإمعان.. {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي كذبوا بما لم يقع لهم منه علم أصلا، لأنهم لم ينظروا فيه، ولو نظروا لعلموا، ثم كذبوا بما لم يأتهم تأويله ولم يدركوا أسراره، لأنهم لم يطيلوا البحث ويمعنوا النظر، ولو فعلوا، لجاءهم تأويله، وانكشفت لهم بعض أسراره.
فهم على تكذيب بالقرآن أبدا.. يكذبون به قبل أن ينظروا فيه، ويكذبون به بعد أن ينظروا فيه، لأنهم يسبقون هذا النظر بمشاعر الاتهام، فإذا نظروا لم ينفعهم النظر، لأنه- كما قلنا- نظر شارد، مستخفّ بما ينظر إليه.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} هو بيان لموقف المشركين من القرآن الكريم، وتعاملهم معه.
فهم فريقان.. فريق نظر في القرآن، وعرف وجه الحق فيه، ولكن يأبى عليه كبره وعناده أن يخرج عن مألوف عادته، وأن يتقبل الدّين الجديد ويترك مخلفات الآباء والأجداد.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فيما حكاه عن هؤلاء المشركين في قوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [33: الأنعام].
وفريق يبادىء القرآن بالتكذيب من قبل أن يسمع أو ينظر.. {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ.. فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} [5: فصلت].
هكذا أهل الزيغ والضلال.. يعمون عن الحق، ويزيغون عن الهدى، سواء منهم من عرف الحق ومن لم يعرفه.. فليس كل الذي يعرف وجه الحق يقبله أو يقبل عليه.. فما أكثر الذين يعرفون الباطل ويتعاملون معه!، وما أكثر الذين يعلمون الشر ويلقون بأنفسهم فيه!. وما أكثر الذين يرون الهوى ويتعامون عنه!، وما أكثر الذين يبصرون وجه الحق ويتنكرون له!.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ.. ظُلْماً وَعُلُوًّا} [14: النمل] قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.
هذا هو الموقف الذي كان على النبي أن يأخذه إزاء المشركين المعاندين المكذبين.. إنه ليس له سلطان عليهم يأخذهم به قهرا وقسرا، إلى ما يدعوهم إليه من الهدى والحق والخير الذي ساقه اللّه سبحانه وتعالى على يديه إليهم.
إنه ما عليه إلا أن يبلغ رسالة ربه.. وقد بلّغها.. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [104: الأنعام].. {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [44: الروم].. فلكل إنسان عمله، الذي سيجزى به يوم القيامة.. من خير أو شر.. {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [164: الأنعام].


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ}.
الضمير: في {منهم} يعود على المشركين الذين جاء ذكرهم في الآيات السابقة، وكشف القرآن عن بعض أحوالهم ومواقفهم من الرسول الكريم، والقرآن الكريم وفى هذه الآية بيان لحال من أحوال هؤلاء المشركين.. وأن منهم من يستمعون إلى القرآن الكريم، والنبىّ يتلوه على الناس.. ولكنهم لا يفتحون لما يسمعون آذانا، ولا قلوبا، فلا يقع لهم مما يستمعون شيئا من الاستضاءة والهدى.
وقد ربط القرآن الكريم هنا بين الأذن والعقل.. للدلالة على أن ما تسمعه الأذن، مجرد سماع، دون أن يعيه الإنسان ويعقله، ليس إلا أصواتا لا مفهوم لها، وليست حاسة السمع حينئذ إلا أداة معطلة لا عمل لها.. إذ أن من عملها أن تصل الإنسان بهذا الوجود، بما يقع فيها من حكمة وموعظة حسنة.. فالأذن إذا لم يكن بينها وبين العقل والقلب اتصال وثيق لما يقع فيها من كلمات-
لم يكن لما تسمعه من طيّب الكلام، وحكيم القول، أثر في مدركات الإنسان وفى سلوكه.. إذ لا يخرج هذا الكلام عن أن يكون مجرد أصوات لا مفهوم لها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} [12: الحاقة].
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ}.
وتلك جماعة أخرى، لها موقف آخر مع النبي، وقد سمعت القرآن، ثم جعلت تنظر فيه بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فلم تهتد إلى خير، ولم تتعرف إلى حق.
ويلاحظ هنا أن القرآن لم يصل بين النظر والعقل، أو القلب، كما فعل ذلك مع السمع، بل جعل مجرد تعطيل أداة النظر عن أداء وظيفتها، حجزا عن عن الخير، وعزلا عن الهدى.
وذلك أن النظر- كما قلنا فيما سبق- جهاز يمد الإنسان بأكثر ما يقوم عليه بناء الملكات والمشاعر والوجدانات، في كيانه، فهو باب المعرفة الذي يطلّ منه الإنسان على هذا الوجود، ويصيد بشباكه، ما يشاء من محسوسات ومعنويات.. ومن هنا كان في ذكر النظر، ذكر واستحضار لملكات الإنسان ومشاعره، ووجداناته.. فإذا عمى النظر أو زاغ، عميت تلك الملكات وزاغت المشاعر، واضطربت الوجدانات.
ومن جهة أخرى، فقد اختلف النظم القرآنى في الآيتين.. هكذا.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ}.
فجاء الاستماع مسندا إلى الجمع، على حين جاء النظر مسندا إلى المفرد.
وفى هذا إشارة إلى أن الذي يستخدم حاسة السمع لا بد أن يدانى الذي يتحدث إليه، وأن يقترب منه بحيث يسمع ما يقول.
أما الذي يستخدم حاسة النظر، فقد ينظر من بعيد، بحيث لا يظهر لمن ينظر إليه.
وإذا كان النبي هو الذي يتلو القرآن على الناس، ليبلّغهم ما أنزل إليه من ربه، فإن ذلك من شأنه عادة أن يكون بمحضر من أعداد كثيرة من المستمعين، ولهذا جاء النظم القرآنى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}.
محدّثا عن هذا العدد الكثير، أو القليل، الذي يستمع إلى النبىّ.
وليس كذلك الحال في مجال النظر إلى ما مع النبي من آيات ربه.. أو النظر إلى النبىّ ذاته، في أحواله ومسلكه في الحياة.
فإن النظر في آيات اللّه، هو نظر يستقل به المرء وحده، ويورد عقله وقلبه على ما سمعه أو قرأه منها.. حتى يرى لنفسه الطريق الذي يأخذه مع تلك الآيات.. مصدقا، ومستجيبا، أو مكذبا، ومنابذا.. وكذلك النظر في أحوال النبىّ، ودراسة شخصيته.. ولهذا جاء النظم القرآنى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ}.
مشيرا إلى ما كان من بعض المشركين من نظر وتفكير، في آيات القرآن التي استمعوا إليها.. ولكنه نظر بعيون كليلة، وتفكير بقلوب مريضة، فلم تهتد إلى حق، ولم تمسك بخير.
وفى قوله تعالى: مخاطبا النبىّ الكريم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}؟ {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ}؟- في هذا إشارة إلى أن المعتقد الدينىّ لا يقوم في النفس مقاما ثابتا، ولا يقع في القلب موقعا مطمئنّا، إلا إذا تناوله الإنسان بنفسه، ونظر فيه بعينه وقلبه، ووزنه بعقله وإدراكه،.. وهنا يكون الإيمان ويكون اليقين، حيث اهتدى إليه الإنسان بمدركاته، وجاء إليه بمحض إرادته في غير قهر أو قسر.. أما يد القهر والقسر، فإنها لن تثبّت دينا ولن تقيم يقينا.
إن ذلك أشبه بيد تدفع إلى معدة الإنسان مباشرة طعاما من غير مضغ ولا بلع! إنه طعام لا يفيد منه الجسم أبدا، ولو كان جائعا يطلبه ويشتهيه، بل ربما قتل صاحبه، أو أفسد نظام جسده، ورماه بأكثر من داء.
ولهذا، فقد كان الإسلام صريحا واضحا، بل صارما، في هذا الموقف.
إنه يحرّم القهر والقسر في كل شىء، لأنه بغى وعدوان.. فإذا كان في مجال العقيدة، فهو أكثر من بغى وعدوان إنه عدوان وبغى يصيبان الإنسان في مقاتله! وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} [256: البقرة] ويقول جل شأنه للنبى الكريم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [99: يونس].
وهذا هو بعينه ما جاء في قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟}.
{أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟}.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
تشير الآية الكريمة إلى ما يركب الناس من عناد وضلال، وما يسوقهم إليه هذا الضلال والعناد، من الكفر باللّه، والشرود عن الحق الذي جاءهم به رسله.. فإذا أخذهم اللّه بذنوبهم، فذلك عدل منه سبحانه وتعالى، فهو- سبحانه- إنما أذاقهم طعم ما غرسوا.. فإذا كان هذا الغرس الذي غرسوه ممّا لا تسوغه أفواههم فتلك جنايتهم على أنفسهم.. {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
أي وما ظلمهم اللّه ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم، إذ حادوا بها عن طريق الهدى، وعدلوا بها عن شاطىء الأمن والسلام، فأوردوها تلك الموارد المهلكة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8